"لو سمع ابن عباس من النبي صلى الله عليه وسلم شهادة لأحد بالجنة، فخرج من عنده فلقي جابر بن زيد وأخبره بذلك، لما صح لجابر أن يشهد للمشهود له بالجنة من خبر ابن عباس، حتى يسمع من النبي عليه الصلاة والسلام كما سمع ابن عباس"
هذه العبارة قرأتها لأول مرة وأنا في المرحلة الثانوية قبل عشرين سنة تقريبا ولم أفهم معناها ومغزاها في ذلك الحين. بقيت عالقة في ذهني سنين طويلة وأنا أتساءل عن إشكالية قبول الرواية أو الخبر عن ابن عباس بالرغم من أنه من كبار علماء الصحابة، لم أفهم لماذا لا يأخذ جابر ابن زيد بقول ابن عباس وقد سمع من رسول الله مباشرة؟
بقيت هذه العبارة راسخة في ذهني بالرغم من أني نسيت في أي كتاب قرأتها. مشهد تمثيلي بشخصياته الثلاث (الرسول محمد، ابن عباس، جابر ابن زيد) لم أنسه أبداً بالرغم من عدم فهمي لمعناه منذ البداية عندما قرأته، لم يتضح لي معناه إلا بعدما كثر الحديث عن خبر الآحاد وعدم حجيته في مسائل الاعتقاد، لأنه ظني الثبوت لعدم تواتره (أي لم يروه جمع عن جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب)، وبالتالي احتمال الخطأ أو الكذب أو النسيان في خبر الواحد أمر وارد، والعقيدة لا يصح أن تقوم على الاحتمال أو الظن.
نسيت الكتاب ولم أنس ذلك المشهد أو تلك العبارة، الشيء الوحيد الذي أذكره أنني قرأت تلك العبارة في كتاب من كتب مكتبة مسجد الحي الذي نشأت فيه، حاولت أن أتذكر في أي كتاب قرأت هذه العبارة المهمة ولم أستطع، حتى ذكرت هذا الأمر في أحد الأيام لأحد الأصدقاء قبل سنة تقريبا من الآن، فأرشدني مباشرة إلى قائلها والكتاب الذي وردت فيه.
العبارة السابقة وردت في كتاب "الشمس الشارقة في علم التوحيد" لمؤلفه حمد بن عبيد السليمي، حيث ساق هذه العبارة كمثال يدلل به على عدم صحة أخذ حديث الواحد (الآحاد) في مسائل العقيدة، وإن كان قد سمع هذا الواحد مباشرة من رسول الله، ومهما بلغ من العلم والصلاح، حيث أن المنهج العقدي يقتضي أن تكون مسائل العقيدة قطعية الثبوت والدلالة لا تحتمل أدنى شك في ثبوتها أو دلالتها.
ما أعجبني في هذه العبارة والذي دفعني للكتابة حولها، أنها عبارة تمثل قاعدة أساسية من قواعد التعامل مع الخبر أو الرواية وبالأخص في مسائل العقيدة، صاغها المؤلف في مشهد تمثيلي قصير يصعب نسيانه بعد قراءته وتخيله ولو لمرة واحدة، كأنه مشهد من مسرحية لا يمكن نسيانه وإن غاب عنوان المسرحية أو مكان عرضها عن ذهن الجمهور. أسلوب ذكي جدا اتبعه الكاتب في عرض فكرته وترسيخها في ذهن القارئ بكلمات موجزة مكتنزة في مشهد بسيط تغني عن الكلام المطول في هذا الموضوع.
هذا الأسلوب في بيان المنهج مارسه الفقهاء القدامى بشكل مركز، وبوعي تام، لتربية جيل قادر على التعامل مع القضايا التي تواجهه بكل سهولة، لأنه تسلح بما يحتاج إليه من قواعد وقوانين تعينه على التعامل مع القضايا مباشرة دون أي وسيط.
هذا ما يحدث أيضا في الدراسات العليا وبالأخص في دراسة الدكتوراه، حيث أن دراسة الدكتوراه في حقيقتها ليست تلقينا لمعلومات معينة تهدف إلى إخراج عالم متمكن في ذلك المجال بعد الحصول على الشهادة، بقدر ما هي تهيئة للشخص ليكون قادرا على البحث بأسلوب منهجي وعلمي دقيق من خلال تدريس منهج البحث، بحيث يكون ذلك الشخص مؤهلا للبحث في أي موضوع دون مواجهة أي صعوبة.
وضوح المنهج والتحلي بالشجاعة في استعماله مهما كانت النتيجة، تجلى بشكل واضح وجلي في تعامل ابن أبي نبهان مع بعض القضايا التي اعتبرت من العقائد بالرغم من عدم ورود نص قطعي بثبوتها ودلالتها، فنجده مثلا يتحدث عن المعراج قائلا: "أما معراجه (النبي محمد) بجسده وروحه معا إلى السماء أو إلى ما هو أعلى، فلم يأت صريح التنزيل بذلك، ولا قامت الحجة بصحيح السنة، ولا يصح فيه الإجماع الذي لا يجوز خلافه"، وهكذا هو الحال بالنسبة لنبوة آدم، حيث يقول: "اختلف العلماء في آدم أنه نبي أو أنه ولي، والشك مع الاختلاف لا يكون كفرا، إذ لم يصح تصريح نبوته نصا في القرآن، ولا قامت الحجة بالصحة أنه نبي من السنة، ولا صح فيه إجماع"، وكذا بالنسبة لعذاب القبر، حيث يقول: "إن تصديق خبر الناكر والنكير في القبر يضاد ما يدل عليه خبر القرآن العظيم (...) وما خالفه فلا شك في بطلانه".
ربما النتائج التي توصل إليها ابن أبي نبهان صادمة للبعض الذي يفتقر إلى المنهج الذي يرشده إلى كيفية التعامل مع مثل هذه القضايا، لكن مع وضوح المنهج ستصبح مثل هذه النتائج منطقية، لا غبار عليها بناءا على هذه القواعد التي أوصلت الباحث إليها.
ذكرت في مقال سابق لي بعنوان "لا تعطني سمكة، بل علمني كيف أصطادها" أن وضوح المنهج سيصنع جيلا قادرا على التفكير بشكل منطقي من خلال قواعد عامة تعمل عمل البوصلة، يستطيع الانطلاق بها لتوجهه الوجهة الصحيحة التي يريد، دون أن يتيه في خضم الحياة المتسارعة بأحداثها وقضاياها المتجددة. هذا ما أردت التأكيد عليه من خلال قصة تلك العبارة التي قرأتها قبل ما يقارب العشرين عاما لتشكل أحد القواعد الأساسية في التعامل مع الخبر أو الرواية.
=================================
للمزيد حول هذا الموضوع، يمكن الاطلاع على المراجع التالية:
هذه العبارة قرأتها لأول مرة وأنا في المرحلة الثانوية قبل عشرين سنة تقريبا ولم أفهم معناها ومغزاها في ذلك الحين. بقيت عالقة في ذهني سنين طويلة وأنا أتساءل عن إشكالية قبول الرواية أو الخبر عن ابن عباس بالرغم من أنه من كبار علماء الصحابة، لم أفهم لماذا لا يأخذ جابر ابن زيد بقول ابن عباس وقد سمع من رسول الله مباشرة؟
بقيت هذه العبارة راسخة في ذهني بالرغم من أني نسيت في أي كتاب قرأتها. مشهد تمثيلي بشخصياته الثلاث (الرسول محمد، ابن عباس، جابر ابن زيد) لم أنسه أبداً بالرغم من عدم فهمي لمعناه منذ البداية عندما قرأته، لم يتضح لي معناه إلا بعدما كثر الحديث عن خبر الآحاد وعدم حجيته في مسائل الاعتقاد، لأنه ظني الثبوت لعدم تواتره (أي لم يروه جمع عن جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب)، وبالتالي احتمال الخطأ أو الكذب أو النسيان في خبر الواحد أمر وارد، والعقيدة لا يصح أن تقوم على الاحتمال أو الظن.
نسيت الكتاب ولم أنس ذلك المشهد أو تلك العبارة، الشيء الوحيد الذي أذكره أنني قرأت تلك العبارة في كتاب من كتب مكتبة مسجد الحي الذي نشأت فيه، حاولت أن أتذكر في أي كتاب قرأت هذه العبارة المهمة ولم أستطع، حتى ذكرت هذا الأمر في أحد الأيام لأحد الأصدقاء قبل سنة تقريبا من الآن، فأرشدني مباشرة إلى قائلها والكتاب الذي وردت فيه.
العبارة السابقة وردت في كتاب "الشمس الشارقة في علم التوحيد" لمؤلفه حمد بن عبيد السليمي، حيث ساق هذه العبارة كمثال يدلل به على عدم صحة أخذ حديث الواحد (الآحاد) في مسائل العقيدة، وإن كان قد سمع هذا الواحد مباشرة من رسول الله، ومهما بلغ من العلم والصلاح، حيث أن المنهج العقدي يقتضي أن تكون مسائل العقيدة قطعية الثبوت والدلالة لا تحتمل أدنى شك في ثبوتها أو دلالتها.
ما أعجبني في هذه العبارة والذي دفعني للكتابة حولها، أنها عبارة تمثل قاعدة أساسية من قواعد التعامل مع الخبر أو الرواية وبالأخص في مسائل العقيدة، صاغها المؤلف في مشهد تمثيلي قصير يصعب نسيانه بعد قراءته وتخيله ولو لمرة واحدة، كأنه مشهد من مسرحية لا يمكن نسيانه وإن غاب عنوان المسرحية أو مكان عرضها عن ذهن الجمهور. أسلوب ذكي جدا اتبعه الكاتب في عرض فكرته وترسيخها في ذهن القارئ بكلمات موجزة مكتنزة في مشهد بسيط تغني عن الكلام المطول في هذا الموضوع.
هذا الأسلوب في بيان المنهج مارسه الفقهاء القدامى بشكل مركز، وبوعي تام، لتربية جيل قادر على التعامل مع القضايا التي تواجهه بكل سهولة، لأنه تسلح بما يحتاج إليه من قواعد وقوانين تعينه على التعامل مع القضايا مباشرة دون أي وسيط.
هذا ما يحدث أيضا في الدراسات العليا وبالأخص في دراسة الدكتوراه، حيث أن دراسة الدكتوراه في حقيقتها ليست تلقينا لمعلومات معينة تهدف إلى إخراج عالم متمكن في ذلك المجال بعد الحصول على الشهادة، بقدر ما هي تهيئة للشخص ليكون قادرا على البحث بأسلوب منهجي وعلمي دقيق من خلال تدريس منهج البحث، بحيث يكون ذلك الشخص مؤهلا للبحث في أي موضوع دون مواجهة أي صعوبة.
وضوح المنهج والتحلي بالشجاعة في استعماله مهما كانت النتيجة، تجلى بشكل واضح وجلي في تعامل ابن أبي نبهان مع بعض القضايا التي اعتبرت من العقائد بالرغم من عدم ورود نص قطعي بثبوتها ودلالتها، فنجده مثلا يتحدث عن المعراج قائلا: "أما معراجه (النبي محمد) بجسده وروحه معا إلى السماء أو إلى ما هو أعلى، فلم يأت صريح التنزيل بذلك، ولا قامت الحجة بصحيح السنة، ولا يصح فيه الإجماع الذي لا يجوز خلافه"، وهكذا هو الحال بالنسبة لنبوة آدم، حيث يقول: "اختلف العلماء في آدم أنه نبي أو أنه ولي، والشك مع الاختلاف لا يكون كفرا، إذ لم يصح تصريح نبوته نصا في القرآن، ولا قامت الحجة بالصحة أنه نبي من السنة، ولا صح فيه إجماع"، وكذا بالنسبة لعذاب القبر، حيث يقول: "إن تصديق خبر الناكر والنكير في القبر يضاد ما يدل عليه خبر القرآن العظيم (...) وما خالفه فلا شك في بطلانه".
ربما النتائج التي توصل إليها ابن أبي نبهان صادمة للبعض الذي يفتقر إلى المنهج الذي يرشده إلى كيفية التعامل مع مثل هذه القضايا، لكن مع وضوح المنهج ستصبح مثل هذه النتائج منطقية، لا غبار عليها بناءا على هذه القواعد التي أوصلت الباحث إليها.
ذكرت في مقال سابق لي بعنوان "لا تعطني سمكة، بل علمني كيف أصطادها" أن وضوح المنهج سيصنع جيلا قادرا على التفكير بشكل منطقي من خلال قواعد عامة تعمل عمل البوصلة، يستطيع الانطلاق بها لتوجهه الوجهة الصحيحة التي يريد، دون أن يتيه في خضم الحياة المتسارعة بأحداثها وقضاياها المتجددة. هذا ما أردت التأكيد عليه من خلال قصة تلك العبارة التي قرأتها قبل ما يقارب العشرين عاما لتشكل أحد القواعد الأساسية في التعامل مع الخبر أو الرواية.
=================================
للمزيد حول هذا الموضوع، يمكن الاطلاع على المراجع التالية:
- دراسة في المنهج العقدي الإباضي – خميس بن راشد العدوي
- الشيخ ناصر بن أبي نبهان الخروصي وآراؤه العقدية – سلطان بن عبيد بن سعيد الحجري
- الشمس الشارقة في علم التوحيد – حمد بن عبيد السليمي
- الإيمان بين الغيب والخرافة – خميس العدوي وخالد الوهيبي
- السنة: الوحي والحكمة، قراءة في نصوص المدرسة الإباضية – خميس العدوي، خالد الوهيبي، زكريا المحرمي
ممتاز��
ردحذفأشكرك على المرور عزيزي
حذفالسلام عليكم المهندس خالد
ردحذفتحليل جميل منطقي يبعث للتأمل والتفكر وأنت كما أنت وكما كنت عبقري من أيام الدراسة النظامية
ولكن لماذا لما تذكر (الرسول محمد-النبي محمد ) لا تذكرها مقرونة بالصلاة عليه وإنما تذكرها (النبي محمد) فقط
ولتكن على علم هذا السؤال لكي تتضح عندي الصورة لأن هذا من ضمن التهم الموجهة لما يسمى بالعقلانيين
وقد تابعت أكثر من مقال ووجدت أن البعض يكتبها هكذا غير مقرونة بالصلاة مع أن الأمر الرباني وارد في القرآن بالصلاة عليه
تقبل مروري بود
وعليك السلام أخي عبدالرحمن...
ردحذفأشكرك على الإطراء، وما هذه المقالات إلا محاولات مبتدئ للولوج إلى عالم التقييد والكتابة...
بالنسبة لذكر النبي محمد بدون "صلى الله عليه وسلم"، لا أرى فيه انتقاص في حق رسول الله، فهو أسمى واجل من أن ينتقص منه أي بشر، وذكر صلى الله عليه السلام ليس من الدين، وإنما ما جرت عليه العادة عند البعض، فالقرآن الكريم ذكره باسمه محمد، ونحن نقرأ هذه الآيات هكذا باسمه مجردا من أي لقب أو إضافة دون أن نشعر بأي حرج.
(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ )
(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ )
(مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ )
(وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ )
أتمنى أن تكون اتضحت الفكرة، وأشكرك مرة أخرى على المرور والتعليق.
أزال المؤلف هذا التعليق.
ردحذف