الجمعة، 23 مايو 2014

لا تعطني سمكة، بل علمني كيف أصطادها

أسلوب تربوي وتعليمي فعّال، لا يختلف في جدواه وفعاليته اثنان. هذا المثل الشائع يجب أن يضعه المربي أو المعلم نصب عينيه، وهو يمارس العملية التربوية والتعليمية، حيث يجب أن يغرس هذا المثل في أذهان أبنائنا منذ نعومة أظفارهم، يكبرون ويكبر معهم، لتكون النتيجة جيلا مستقلا قادرا على البناء والتعمير بنفسه، مع أدنى مستوى من التوجيه والإرشاد. إن نجحنا في صنع جيل قادر على فعل ذلك، قادر على اصطياد السمكة بنفسه دون أن تعطى له، قادر على قول "لا تعطني السمكة، بل علمني كيف أصطادها" أمام من يقدم له السمكة جاهزة، فإننا قد نكون حققنا إنجازا كبيرا سنحصد نتائجه الطيبة في المستقبل.

هذا يجب أن يكون هدف كل مربٍ ومعلم، وإن لم نفعل ذلك، فإننا سنصنع جيلا اتكاليا، سيموت جوعا في اللحظة التي يتوقف فيها إعطاؤه السمك. نعم، سنكون أمام جيل لا يستطيع الاعتماد على نفسه في أبسط الأمور لأنه تعود على الحصول على ما يحتاجه بكل سهولة دون أدنى جهد أو مشقة. هذا الأمر سينعكس على جميع مراحله الحياتية منذ الطفولة وحتى الكهولة.

ما دفعني إلى كتابة هذا المقال، هو تأملي لتلك الأسئلة المتكررة التي تبث في الفضائيات، أو تنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي، طلبا للفتوى في مسائل فقهية في الغالب، أسئلة تعبر في حقيقتها عن تعطيل تام، وشلل كامل لما يسمى بالتفكير المنطقي، كما تعبر أيضا عن غياب القواعد العامة أو الكلية التي يجب أن تشكل الأساس والمنطلق في أي تفكير منطقي، أسئلة تعبر عن أشخاص تعودوا على الحصول على السمكة (الأجوبة المغلفة والجاهزة)، بدل اصطيادها بأنفسهم.

سافرت مرة في الطائرة في رحلة انطلقت من مسقط في الليل متجهة إلى الشرق، حيث الوصول إلى ذلك البلد في صباح اليوم التالي، وبالتالي سيكون أداء صلاة الفجر في الطائرة. قمت وتوضأت لصلاة الفجر قبل دخول الوقت، وأديت الصلاة مباشرة بعد دخول وقتها. كان بجانبي رجلان من إحدى المدن العمانية سافرا طلبا للعلاج، نبهتهما أن الوقت سيفوتهما إن لم يسرعا لأداء الصلاة بحكم حركة الطائرة جهة الشرق، وبالتالي يكون الوقت ضيقا، فقالا لي وبحسن نية، أنهما سيقومان بأداء الصلاة في الفندق لعدم مناسبة المكان لأداء الصلاة.

سيقول البعض أن هذا جهل بفقه أداء الصلاة في الطائرة، يحتاجون إلى من يشرح لهم فقه صلاة الطائرة، لكنني أختلف مع هذا التوصيف البسيط وأعتبر القضية أعمق من ذلك. بالنسبة لي، هذا أمر مقلق جدا، ليس لجهل هذين الشخصين لفقه أداء الصلاة في الطائرة، وإنما لجهلهما لقواعد عامة وكلية في موضوع الصلاة، لو عرفوها لما فكروا أصلا في تأخير الصلاة عن وقتها ظنا منهم أنهم يقومون بذلك حفاظا على أداء الصلاة في أكمل وجه بدلا من أدائها قعودا في كرسي الطائرة.

لا أريد أن أطيل الحديث عن هذه الواقعة، لكنها كانت بالنسبة لي منتجا من منتجات ثقافة تلقين الأجوبة المغلفة والجاهزة للبلع، كما هو الحال أيضا بالنسبة للأسئلة التي تتكرر في برامج الاستفتاء والتي هي أيضا مؤشر للثقافة المنتشرة في أوساط هؤلاء المستفتين، وهي ثقافة التلقين أو الحصول على السمكة الجاهزة.

من الطرف التي ما زلت أذكرها، عندما كنا ندرس في الثانوية العامة، أن أحد الأصدقاء الذي كان يدرس في القسم الأدبي، أخبرني أنه كان يحفظ المسائل في كتاب الرياضيات حفظا، بأرقامها ورموزها وخطواتها، يقول أنه لا يفقه القواعد وبالتالي لو تغير رقم واحد في المسألة لعجز عن الوصول إلى الحل الصحيح لتلك المسألة.

الأمر المقلق الآخر، هو وجود من يحاول أن يكرس هذه الثقافة، ثقافة التلقين وتوفير الأجوبة المغلفة والجاهزة، لحاجة في نفس يعقوب، بدعوى أن الناس غير مؤهلين للإجابة على الأسئلة التي تواجههم، لأنهم ليسوا من أصحاب التخصص، وللعلوم الشرعية أربابها، بالرغم من أن كثيرا من هؤلاء هم في حقيقتهم حفاظ وليسوا بفقهاء، حالهم كحال صاحبنا الذي يحفظ المسألة بجميع تفاصيلها، وإن تغيرت فيها بعض الأرقام أو الرموز تورطوا ولم يستطيعوا حلها.

لا يمكن أن نتجاوز هذه الإشكالية إلا عن طريق تعليم الناس القواعد التي يمكنهم من خلالها حل المسائل، كما هو الحال بالنسبة لقواعد الرياضيات والفيزياء، بدل تلقينهم الجواب النهائي لكل مسألة، بحيث لو تغيرت فيها بعض الأرقام أو تحول الجمع طرحا، بقي هذا الشخص حائرا لا يستطيع الوصول إلى الحل لأنه حفظ جواب المسألة بصيغة محددة لا يمكن أن يحيد عنها.

الحل أن نصنع جيلا قادرا على التفكير بشكل منطقي من خلال قواعد عامة تعمل عمل البوصلة، يستطيع الانطلاق بها لتوجهه الوجهة الصحيحة التي يريد، دون أن يتيه في خضم الحياة المتسارعة بأحداثها وقضاياها المتجددة.

أتمنى أن أرى ذلك اليوم الذي يسأل فيه السائل، ويأتيه الجواب هكذا: وما رأيك أنت؟ أتمنى أن نحاول أن نشرح لهذا السائل القواعد التي ستمكنه من حل المسائل التي ستواجهه، بدلا من إعطائه الجواب النهائي، أتمنى أن تهتم مراكز التعليم بهذا الجانب لتنمية الاستقلال في التفكير عند هؤلاء الطلاب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق