هكذا عنون المؤلف كتابه كعنوان رئيس، ثم نجد تحت هذا العنوان الرئيس عنوانا فرعيا وهو "مشكلة العنف في العمل الإسلامي".
يبدو أن فكرة الكتاب أكثر وضوحا من خلال العنوان الفرعي منها في العنوان الرئيس والذي قد يحمل تأويلات شتى بالمقصود من "مذهب ابن آدم الأول".
صدر من هذا الكتاب خمس طبعات حتى اقتنائي لهذه النسخة من الكتاب وهي الطبعة الخامسة التي صدرت من دار الفكر المعاصر عام 1993م، وبالتالي –كما ذكرت آنفا-ضمّن المؤلف طبعته هذه جميع مقدمات الطبعات السابقة، حيث حوى بين طياته خمس مقدمات شغلت حيزا لا بأس به من الكتاب (ما يقارب 60 صفحة).
الفكرة الرئيسة التي يدور حولها الكتاب هي محاولة حل مشكلة العنف في العمل الإسلامي من خلال تصحيح مفاهيم خاطئة تتعلق بالجهاد والخروج على الحاكم والتي تكون نتيجتها الاقتتال وإزهاق الأنفس والفساد في الأرض عند انطلاقها من تفكير مغلوط وفهم خاطئ.
لقد طرح الكاتب رؤيته حول هذه المفاهيم والتي تعتبر رؤية متقدمة جدا بكل شجاعة قبل أكثر من أربعة عقود حيث كانت الساحة تمور بتيارات فكرية مختلفة ومنها التيار الإسلامي الذي عانى كل أشكال العنف والتعذيب من قبل الأنظمة الحاكمة في ذلك الوقت أو قبله، مما حدا ببعض هذه التيارات اللجوء إلى العنف والقسوة بل حتى إلى الاغتيال من أجل الثأر والتغيير.
الشجاعة التي تحلى بها الكاتب في طرحه تتجلى من خلال العبارة التالية التي جاءت في مقدمة الطبعة الخامسة من هذا الكتاب حيث يقول:
"أظن أن التاريخ الذي عشته، حياة وقراءة ومعاناة، أشعرتني بضرورة أن أخرج من الرحم، وما هذا الرحم؟
إنه هو:
رحم ما وجدنا عليه آباءنا
رحم معرفة الحق بالرجال
رحم عالم الأشخاص"
كما يقول في موضع آخر من هذه المقدمة: "فالذي يعيش عالة على فكر الآباء، هو مثل الجنين الذي يعيش في الرحم عالة على أمه".
ثم إنه يدعو دائما إلى التساؤل وتمحيص كل ما ورد في تراثنا الإسلامي حتى نستطيع الخروج من بطن الأم وتحقيق الاستقلال أو ما يسميه الكاتب بـ "الولادة الفكرية". يقول الكاتب في مقدمة طبعته الرابعة للكتاب: "وما لم نتساءل عن أشياء كثيرة في ثقافتنا الإسلامية، فإننا لن نقدر على أن نفتح أبصارنا لنرى ماذا يحدث في العالم". ويقول أيضا: "لم نعد نتساءل التساؤل الإبراهيمي، ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ هل ينفعونكم أو يضرون؟ ليس عندنا تساؤل، وإن حصل تساؤل فليس عندنا جواب إلا جواب قوم إبراهيم: بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، إنهم كانوا يرون آباءهم سلفا صالحا، ولم يخطر في بالهم القول الكريم: (أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون)."
هكذا تتجلى شجاعة هذا المفكر في طرح رؤى جديدة حول مفاهيم أساسية رأى الكاتب من واجبه أن يقوم بتصحيحها دون أدنى خوف أو تردد وإن سخطت عليه التيارات الإسلامية بطرحه هذا أو خالفته فيما ذهب إليه، آملا أن يسود مذهب ابن آدم الأول والذي تتبين معالمه من خلال ما ذكره في نهاية مقدمة الطبعة الرابعة، حيث يقول: "لا شك أن مذهب ابن آدم الأول صار نهاره قريبا، وبدأ فجره يبزغ، وخيره سيعم في العالم، وسيصل إلى المدى الذي يقول فيه الإنسان للآخر: لئن بدأت الحرب، ولئن بسطت إلي يدك لتقتلني، ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين".
بعد تلك المقدمات الخمس التي جاءت في بداية الكتاب، يبدأ الفصل الأول من المحتوى الرئيس للكتاب بمجموعة نصوص من كتاب الله ومما روي عن رسول الله والتي تتناول موضوع القتل في قصة ابني آدم، ودعوة نوح عليه السلام لقومه (يونس، 71)، والروايات التي تتحدث عن عصر الفتن، والبيعة على قول الحق والجهاد. طرح الكاتب تلك النصوص كما هي دون شرح أو تأويل كمقدمة للمواضيع التي سيتناولها لاحقا في الكتاب لمعالجة مشكلة العنف في العمل الإسلامي.
بعد تلك المقدمة من مجموعة النصوص التي أوردها، طرح الكاتب مجموعة من الملاحظات التي تخص الموضوع الذي يتناوله، ثم تناول مجموعة من النماذج النبوية في العمل الدعوي، كما تطرق إلى فكرة البلاغ المبين في الدعوة إلى الله، وبعض الشبهات التي يمكن أن تثار حول الموضوع وبالأخص شبهة تعطيل الجهاد أو إماتة روح الجهاد عند الناس من خلال هذا الطرح.
من الأفكار الأساسية التي طرحها الكاتب وأراد أن يصححها لدى الجماعات الإسلامية بشكل خاص التفريق بين الجهاد والخروج. يقول الكاتب أن "الخروج هو استخدام القوة والعنف للوصول إلى الحكم" و "الجهاد هو استخدام القوة بعد الوصول إلى الحكم برضا الناس، لمنع الإكراه في الدين".
هذه هي الفكرة الأساسية للجهاد (منع الإكراه في الدين) في وجهة نظر الكاتب، حيث يقول: "شرع القتال حتى لا يكون إكراه في الدين (قاتلوهم حتى لا تكون فتنة)" وبالتالي نجد أنه يطرح شرطين أساسيين لتحقيق الجهاد بالقتال أحدهما في المجاهِد والآخر في المجاهَد ضده، بحيث إذا توفر هذان الشرطان جاز الجهاد أو وجب، وإلا فلا. هذان الشرطان هما:
1. أن يكون المجاهِد قد وصل إلى الحكم برضا الناس واقتناعهم
2. أن يكره المجاهَد ضده الناس على دين معين أو يفتنهم عن دينهم
تأثر جودت سعيد بأفكار المفكر والفيلسوف الكبير مالك بن نبي واضح جدا من خلال الاقتباسات التي يوردها في كتابه من كتب مالك بن نبي لتخدم الفكرة في الموضوع الذي يتناوله، وهذا ربما يفسر الرؤية التقدمية التي تميز بها جودت سعيد عن غيره من المفكرين الإسلاميين في تلك الحقبة التي خرج فيها كتابه هذا.
ربما كان الكاتب متفائلا جدا عندما قال أن مذهب ابن آدم الأول صار نهاره قريبا، وبدأ فجره يبزغ، حيث أنه كتب هذا الكلام قبل أن يرى العنف الذي تبنته بعض التيارات التي تنسب نفسها إلى الإسلام اليوم مثل تنظيم القاعدة، والاقتتال الطائفي الذي يحدث في العراق، والحرب الأهلية في سوريا وغيرها من الأحداث التي وقعت من قتل للأبرياء والتي تبنتها تيارات تنسب نفسها إلى الإسلام. لا أدري ماذا سيقول اليوم وهل سيعيد صياغة تلك العبارة التي كتبها قبل نحو عشرين عاما.
يبدو أن أفكار الكاتب لم تنل حظها من الانتشار والدراسة في المجتمعات الإسلامية، ربما لأنها لا تخدم توجهات تلك التيارات التي تتبنى أسلوب العنف والقتال من أجل التغيير، حيث أن أسلوب (لأقتلنك) أسهل بالنسبة لهؤلاء من محاولة التغيير وفق سنن الله في الأنفس والآفاق.
خالد الوردي
10 رجب 1435هـ
10 مايو 2014م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق