قرأت قبل عدة أيام قصة قصيرة وطريفة في نفس الوقت باللغة الإنجليزية، تتلخص كالآتي:
"حاولت إقامة علاقات صداقة وتعارف مع أناس خارج الفيسبوك في الواقع الحقيقي، بنفس الأسلوب والطريقة المتبعين في عالم الفيسبوك الافتراضي...
لذا، نزلت إلى الشارع وبدأت بإيقاف المارة لأخبرهم ماذا أكلت قبل قليل، بماذا أشعر في هذه اللحظة، ماذا فعلت في الليلة الماضية، ما أنوي القيام به وبصحبة من...
بدأت بإعطائهم صورا لعائلتي، حديقة المنزل، سقي العشب، صورتي وأنا أقف أمام أحد النصب التذكارية، صورتي وأنا أقود السيارة في المدينة، أنا وأتناول الغداء وغيرها من الصور التي توثق نشاطي اليومي...
بدأت الوقوف جنب بعض المارة الذين يتحدثون مع بعضهم لأستمع إلى حديثهم وأبدي إعجابي به، وأخبرهم كذلك بإعجابي بهم...
المثير للدهشة، اكتشفت أن هذه الطريقة وبهذا الأسلوب في العالم الحقيقي تعمل، حتى الآن عندي ثلاثة أشخاص يتابعونني: رجلان من الشرطة وطبيب نفساني..."
***
قصة كتبها صاحبها كطرفة، لكنها في حقيقة الأمر تحكي وتصور واقعا نشهده في وسائل التواصل الاجتماعي وبالأخص موقع الفيسبوك...
الآن أخرج من المنزل متجها إلى المكان الفلاني... ابنة أخي ترقد الآن في المستشفى إثر وعكة صحية... الآن أتناول وجبة الغداء مع... والتي هي عبارة عن... الآن في المطار أنا والعائلة متجهون إلى ...استلمت قبل قليل دوائي من الصيدلية... سأخطب اليوم في الجامع الفلاني... انتهيت قبل قليل من إلقاء محاضرة عن... خرجت للتو من المسجد بعد الفراغ من أداء صلاة... زرت قبل قليل الشيخ... نحن الآن في منزل...
هذا على مستوى الحسابات الشخصية للأفراد، وأما ما يسمى بـ "الصفحة العلمية" في الفيسبوك للشيخ فلان والشيخ علان، فهذا ما نجده من علم:
زيارة طلاب..... للشيخ ..... في منزله ليلة أمس، صور من لقاء الشيخ ..... بالعلامة الشيخ..... ، افتتاح فعالية.... برعاية الشيخ......، صور من زيارة الشيخ لولاية......، صور قديمة للشيخ ..... وهو في سن الصغر، بحمد الله وتوفيقه افتتح أمس فضيلة الشيخ......
للأسف هي في الحقيقة صفحات دعاية وإعلان لا تمت للعلم بصلة لا من قريب ولا من بعيد...
هذا هو واقع الفيسبوك، الذي لو حاولنا تطبيقه في العالم الحقيقي كما ورد في القصة أعلاه، لاتهمنا بالجنون أو خفة العقل، ولتم اقتيادنا إلى مصحة نفسية بسبب هذه السلوكيات التي سيستغربها الجميع في الواقع الحقيقي...
***
لو اعتبرنا هذا الأمر أحد أمراض وسائل التواصل الاجتماعي، فإن هناك مرضا آخر قد يصاب به بعض مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، وهو مرض "العمى" والذين يصابون به سماهم د. مصطفى الحسن في إحدى مقالاته ب "عميان ساراماغو"...
"عميان ساراماغو" هم أولئك الأشخاص الذين وردوا في رواية الكاتب البرتغالي خوسيه ساراماغو المسماة "العمى" والتي تدور أحداثها حول وباء معد انتشر في إحدى المدن، بحيث من يتعرض لهذا الوباء يصاب بالعمى مباشرة، مما أدى إلى انتشاره بسرعة كبيرة، بحيث تم عزل هؤلاء الأشخاص الموبوئين في منطقة حجر صحي، حتى لا يقوموا بعدوى الناس الأصحاء...
بدأ هؤلاء الأشخاص بالتكيف في منطقة العزل تلك ليبدؤوا حياة جديدة تختلف تماما عن حياتهم وهم أصحاء يرون الناس الآخرين ويرونهم...
أصبحت تلك المنطقة مأهولة بهؤلاء العميان والذين أصبحوا يعتقدون أنهم مأهولون بها فقط، ولذا لا يحتاجون إلى مراعاة أي قيمة إنسانية من الحشمة واللباس والتستر لأنهم لا يرون بعضهم البعض، بل وصل الأمر إلى التعري وممارسة الرذيلة أمام الآخرين دون أدنى استحياء لأن الآخرين لا يرونهم...
تفاصيل كثيرة في الرواية لا تهمنا كثيرا بقدر ما يهمنا الفكرة التي تدور حولها والتي تجسدت من خلال هؤلاء العميان، حيث أن بعض مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي وللأسف الشديد، أصيبوا بهذا المرض، فالفيسبوك أو التويتر يمثلان المحجر الصحي لهؤلاء، فبمجرد دخولهم لهذا المحجر فقدوا بصرهم وأصبحوا كعميان ساراماغو فيبدؤون بممارسة مختلف أنواع الفحش في القول، والنهش في أعراض الناس لأنه لم يعد يراهم أحد، لا لشيء إلا لأن أحدا من الأشخاص طرح رأيا أو فكرة اختلف معهم فيها...
وسائل التواصل الاجتماعي يمكن تسخيرها في خدمة المجتمع وتطوير الذات وإيصال رسائل إيجابية وبناءة إلى أكبر شريحة من المجتمع، بل إلى العالم أجمع، لكن للأسف لم تستغل ولم تتم الاستفادة منها بالطريقة التي يجب، وبالتالي ما نحصده منها هو بعض ما ذكرناه في الأعلى، لذا أتمنى تفعيل مثل هذه الوسائل بشكل أفضل ودراسة الظواهر والسلوكيات في مثل هذه المواقع من قبل المختصين لمعالجة وتصحيح ما يحتاج إلى ذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق